سورة الأنعام - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)}
{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} المفاتح جمع المفتح.
وقرأ ابن السميقع: بمفاتيح على جمع المفتاح، يعني ومن عنده معرفة الغيب وهو يفتح ذلك بلطفه، واختلفوافي مفاتيح الغيب.
فروى عبد اللّه بن عمر إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتح الغيب خمس....... إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن اللّه عليم خبير».
وقال السدي: مفاتح الغيب خزائن الغيب. مقاتل، والضحّاك: يعني خزائن الأرض. وعلم نزول العذاب متى ينزل بكم.
عطاء: يعني ما غاب عنكم من الثواب والعقاب وما يصير إليه أمري وأمركم، وقيل: هي الآجال ووقت انقضائها، وقيل: أحوال العباد من السعادة والشقاوة، وقيل: عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال، وقيل: هي ما لم يكن بعد إنه يكون أم لا يكون وما يكون كيف يكون وما لا يكون أن لو كان كيف يكون.
وقال ابن مسعود: أوتي نبيّكم علم كل شيء إلاّ مفاتيح الغيب {وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر}.
قال مجاهد: البر القفار والبحر كل قرية فيها ماء {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا}.
قال ابن عباس: ما شجرة في بر ولا بحر إلاّ وبها ملك وكّل يعلم من يأكل وما يسقط من ورقها وقل منكم عند ما بقي من الورق على الشجر وما سقط منها.
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر بن عبدوس يقول: معناه يعلم كما تقلبت ظهراً لبطن إلى أن سقطت على الأرض {وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض} أي في بطون الأرض، وقيل: تحت الصخرة في أسفل الأرضين {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ} قال ابن عباس: الرطب الماء، واليابس البادية. وقال عطاء: يريد ما ينبت وما لا ينبت.
وقال الحسن: يكتبه اللّه رطباً ويكتبه يابساً لتعلم يا بن آدم إن عملك أولى بها من إصلاح تلك الجنة.
وقال: الرطب لسان المؤمن رطب بذكر اللّه، واليابس لسان الكافر لا يتحرك بذكر اللّه. وبما يرضي اللّه عز وجل. وقيل: هي الأشجار والنبات.
وروى الأعمش عن أبي زياد عن عبد اللّه بن الحرث، فقال: ما في الأرض من شجرة ولا كمغرز إبرة إلاّ عليهاملك وكل يأتي اللّه بعلمها ويبسها إذا يبست ورطوبتها إذا رطبت.
محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من زرع على الأرض ولا ثمار على أشجار ولا حبة في ظلمات الأرض إلاّ عليها مكتوب: بسم اللّه الرحمن الرحيم، رزق فلان ابن فلان وذلك قوله تعالى في محكم كتابه {ومَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ}».
{إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ * وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل} أي يقبض أرواحكم في منامكم {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} وأصله من جارحة اليد.
ثم قيل لكل عليك جارح أي عضو من أعضائه عمل ومنه الزرع الجيد، ويقال لا ترك اللّه له جارحاً أي عبداً ولا أمة يكسب له {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ} أي ينشركم ويوقظكم {فِيهِ} في النار {ليقضى أَجَلٌ مُّسَمًّى} يعني أجل الحياة إلى الممات حتى ينقضي أثرها ورزقها.
فقرأ أبو طلحة وأبو رجاء بالنون المفتوحة أجلاً نصب، وفي هذا إقامة الحجة على منكري البعث يعني كما قدرت على هذا فكذلك أقدر على بعثكم بعد الموت.
وقال: مكتوب في التوراة: يا ابن آدم كما تنام كذلك تموت وكما توقظ كذلك تبعث {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} في الآخرة {ثُمَّ يُنَبِّئُكُم} يخبركم ويجازيكم {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} يعني الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم وهو جمع حافظ، ونظيره قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الإنفطار: 10] قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ومن الناس من يعيش شقيّاً جاهل القلب، غافل اليقظة، فإذا كان ذا وفاء ورأى حذر الموت واتقى الحفظة، إنما الناس راحل ومقيم الذي راح للمقيم عظة {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} يعني أعوان ملك الموت يقبضونه ثم يدفعونه إلى ملك الموت {وَهُمْ يُفَرِّطُونَ} لا يعصون ولا يضيعون.
وقرأ عبيد بن عمر: لا يفرطون بالتخفيف معنى لا يجاوزون الحد {ثُمَّ ردوا إلى الله} يعني الملائكة وقيل: يعني العباد {مَوْلاَهُمُ الحق أَلاَ لَهُ الحكم} القضاء في خلقه {وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين} يعني لا يحتاج إلى رويّة ولا تقدير {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر} إذا ضللتم الطريق وخفتم الهلاك {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} وقرأ عاصم: وخفية وهما لغتان. وقرأ الأعمش وخفية من الخوف كالذي في الأعراف {لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هذه} أي ويقولون لئن أنجيتنا من هذه يعني الظلمات {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} من المؤمنين {قُلِ الله يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ} حزن {ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} يعني الصيحة والحجارة والريح والطوفان كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط وقوم نوح {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} يعني الخسف كما فعل بقارون.
وقال مجاهد: عذاباً من فوقكم السلاطين، الذين من تحت أرجلكم العبيد السوء.
الضحّاك: عذاباً من فوقكم من قبل كباركم أو من تحت أرجلكم من أسفل منكم {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} أو يخلقكم ويفرق ويبث فيكم الأهواء المختلفة {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} يعني السيوف المختلفة بقتل بعضكم بعضاً كما فعل ببني إسرائيل، فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا جبرئيل ما بقاء أمتي على ذلك؟» فقال له جبرائيل: إنما أنا عبد مثلك فسل ربك؟ فقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وتوضأ وصلى وسأل ربه فأعطى آيتين ومنع واحدة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألته أن يبعد على أمتي عذاباً من فوقهم ومن تحت أرجلهم فأعطاني ذلك، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني، وأخبرني جبرئيل عليه السلام أن فناء أمتي بالسيف».
وقال الزهري: «راقب خباب بن الأرت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذات ليلة يصلي فلما فرغ، قال: وقت الصباح لقد رأيتك تصلي صلاة ما رأيتك صليت مثلها، قال: أجل إنها صلاة رغبة ورهبة سألت ربي فيها ثلاثاً وأعطاني إثنتين، وزوى عني واحدة، سألته أن لا يسلط على أمتي عدواً من غيرهم فأعطاني، وسألته أن لا يرسل عليهم سنة فتهلكهم فأعطاني، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فزواها عني».
{انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ} قرأ إبراهيم بن عبلة وكذبت بالتاء {بِهِ} أي بالقرآن وقيل: بالعذاب {قَوْمُكَ وَهُوَ الحق قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي حفيظ ورقيب وقيل: مسلط {إِنَّمَآ} أنا رسول {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} موضع قوله وحقيقة ومنتهى ينتهي إليه فيتبين صدقه من كذبه وحقه من باطله.
قال مقاتل: لكل خبر يخبره اللّه تعالى وقت ومكان يقع فيه من غير خلف ولا تأخير.
قال الكلبي: لكل قول أو فعل حقيقة ما كان منه في الدنيا فستعرفونه. وما كان منه في الآخرة فسوف يبدو لهم {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ذلك.
وقال الحسن: لكل عمل جزاء فمن عمل عملاً من الخير جوزي به الجنة، ومن عَمِل عَمَل سوء جوزي به النار، وسوف تعلمون يا أهل مكة.
وقال السدي: لكل نبأ مستقر أي ميعاد وحد تكتموه، فسيأتيكم حتى تعرفوه.
وقال عطاء: لكل نبأ مستقر يؤخر عقوبته ليعمل ذنبه فإذا عمل ذنبه عاقبه.
قال الثعلبي: ورأيت في بعض التفاسير إن هذه الآية نافعة من وجع الضرس إذا كتبت على كاغد ووضع عليه السن.


{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)}
{وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا} يعني القرآن الإستهزاء والكذب {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} فاتركهم ولا تجالسهم {حتى يَخُوضُواْ} يدخلوا {فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} غير القرآن، وذلك إن المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسبوا واستهزؤا بالقرآن، فنهى اللّه المؤمنين عن مجالستهم {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ}.
قرأ ابن عباس وابن عامر: ينسونك بالتشديد {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين} فقم من عندهم بعد ما ذكرت ثم قال: {وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ} الخوض {مِنْ حِسَابِهِم} من أيام الخائضين {مِّن شَيْءٍ}.
قال ابن عباس: قال المسلمون: فإنا نخاف الإثم حين نتركهم فلا ننهاهم فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية.
وقال ابن عباس في رواية أخرى: قال المسلمون: لئن كنا كلما استهزأ المشركون في القرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت فنزل {وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} {ولكن ذكرى} أي ذكروهم وعظوهم وهي في محل النصب على المصدر أي ذكروهم ذكرى والذكر والذكرى واحد ويجوز أن يكون في موضع الرفع أي هو ذكرى {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الخوض إذا وعظتموهم، وقيل: وإذا قمتم يسعهم في ذلك من الإستهزاء والخوض. وقيل: لعلهم يستحيون {وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} باطلاً وفرحاً {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} وذلك أن اللّه تعالى جعل لكل قوم عيداً يعظمونه ويصلون فيه فكان قوم إتخذوا عيدهم لهواً ولعباً إلاّ أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم اتخذوا عيدهم صلاة للّه.
وذكرا مثل الجمعة والفطر والنحر {وَذَكِّرْ بِهِ} وعظ بالقرآن {أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} يعني أن لا تبسل كقوله تعالى بين اللّه لكم أن تضلوا. ومعنى الآية ذكرهم ليؤمنوا فلا تبسل نفس بما كسبت.
قال ابن عباس: تهلك، قتادة: تحيس.
الحسن، ومجاهد، وعكرمة، والسدي: تسلم للهلكة. علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس: تفضح.
الضحاك: تفضح وتحرق. المؤرخ، وابن زيد: تؤخذ.
قال الشاعر:
وإبسالي بني بغير جرم *** بعونها ولا بدم مراق
العوف بن الأحوض: وكان رهن بيته وحمل عن غنى لبني قشير دم السحقية. فقالوا: لا نرضى بك، فدفعهم رهناً، وقوله بعونا أي جنيناً، والبعو الجناية.
وقال الأخفش: تبسل أي تجزى. وقال الفراء: ترتهن.
وأنشد النابغة الجعدي:
ونحن رهناً بالأفاقة عامراً *** بما كان في الدرداء رهنا فأبسلا
وقال عطية العوفي: يسلم في خزية جهنم.
وقال أهل اللغة: أصل الإبسال التحريم، يقال: أبسلت الشيء إذا حرمته، والبسل الحرام.
قال الشاعر:
بكرت تلومك بعد وهن في الندى *** بسل عليك ملامتي وعتابي
فقال: أنشدنا بسل أي شجاع لا يقدّر موته كأنه قد حرم نفسه ثم جعل ذلك نعتاً لكل شديد. يترك، ويبقى. ويقال: شراب بسل أي متروك.
قال الشنفرى:
هنالك لا أرجو حياة تسرني *** سمير الليالي مبسلاً بالجرائر
وقوله تعالى: {لَيْسَ لَهَا} أي لتلك الأنفس {مِن دُونِ الله وَلِيٌّ} حميم وصديق {وَلاَ شَفِيعٌ} يشفع لهم في الآخرة {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ} تفد كل فداء، {لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ}.
قال أبو عبيدة: وإن يقسطه كل قسط لا يقبل منها لأن التوبة في الحياة {أولئك الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ * قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله} نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر حين دعا أباه إلى الكفر فأنزل اللّه تعالى قل أندعوا من دون اللّه {مَا لاَ يَنفَعُنَا} إن عبدناه {وَلاَ يَضُرُّنَا} إن تركناه {وَنُرَدُّ على أَعْقَابِنَا} إلى الشرك {بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله}.
وتقول العرب لكل راجع خائب لم يظفر بحاجته: ردّ على عقبيه ونكص على عقبيه فيكون مثله {كالذي استهوته الشياطين} أي أضلته.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: كالذي استغوته الغيلان في المهامة وأضلوه وهو حائر بائر {فِي الأرض حَيْرَانَ} وحيران نصب على الحال.
وقرأ الأعمش، وحمزة: كالذي إستهوا به، بالباء. وقرأ طلحة: إستهواه بالألف.
وقرأ الحسن: إستهوته الشياطون وفي مصحف عبد اللّه وأُبي إستهواه الشيطان على الواحد.
{لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى ائتنا} يعني أتوا به، وقيل: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} أي لأن نسلم {لِرَبِّ العالمين * وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه وَهُوَ الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} إلى قوله: {يُنفَخُ فِي الصور}.
قال أبو عبيدة: هو جمع صورة مثل سورة وسور.
قال العجاج:
ورب ذي سرادق محجور *** سرت إليه في أعالي السور
وقال آخرون: هو فرن ينفخ فيه بلغة أهل اليمن.
وأنشد العجاج:
نطحناهم غداة الجمعين *** بالضابحات في غبار النقعين
نطحاً شديداً لا كنطح الصورين ***
يدل على هذا الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم كيف أنعم صاحب القرن قد أكتم القرن وحنى حنينه وأصغى سمعه فنظر متى يؤمر فنفخ، ثم قال: {عَالِمُ الغيب والشهادة وَهُوَ الحكيم الخبير}.


{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)}
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ}.
قال محمد بن إسحاق والضحاك والكلبي: وآزر أبو إبراهيم وهو تارخ مثل إسرائيل ويعقوب وكان من أهل كوثى قرية من سواد الكوفة.
وقال مقاتل بن حيان: لأب إبراهيم.
وقال سليمان التيمي: هو سب وعيب. ومعناه في كلامهم المعوج وقيل: معناه الشيخ الهنم بالفارسية وهو على هذه الأقاويل في محل الخفض على البدل أو الصفحة ولكنه نصب لأنه لا ينصرف.
وقال سعيد بن المسيب، ومجاهد، ويمان: آزر إسم صنم وهو على هذا التأويل في محل نصب.
وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره أتتخذ آزر أصناماً ألهة.
وقرأ الحسن وأبو يزيد المدني ويعقوب الحضرمي: آزر بالرفع على النداء بالمفرد يعني يا آزر {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} من دون اللّه إلى قوله: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض} يعني كما أريناه البصيرة في دينه والحق في خلاف قومه نريه ملكوت السماوات والأرض أي ملكهما والملكوت الملك وبدت فيه وجدت التاء للتأنيث في الجبروت والرهبوت والرحموت.
وحكي عن العرب سراعاً له ملكوت اليمن والعراق.
وقال الكسائي: زيدت فيه التاء للمبالغة. وأنشد:
وشر الرجال الخالب الخلبوت ***
وقال عكرمة: هو الملك غير إنها بالنبطية ملكوتاً. وقرأها بالياء المعجمة مليّاً.
وقال ابن عباس: يعني خلق السماوات والأرض.
مجاهد وسعيد بن جبير: يعني آيات السماوات والأرض، وذلك إنه أقيم على صخرة وكشفت له عن السماوات والأرض حتى العرش وأسفل الأرض ونظر إلى مكانه في الجنة. وذلك قوله: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا} [العنكبوت: 27] يعني أريناه مكانه في الجنة.
قال قتادة: إن إبراهيم عليه السلام حدث نفسه إنه أرحم الخلق. فرفعه اللّه عز وجل حتى أشرف على أهل الأرض وأبصر أعمالهم فلما رآهم يعملون بالمعاصي قال لله: دمرّ عليهم، وجعل يلعنهم. فقال له ربه: أنا أرحم بعبادي منك، إهبط فلعلّهم يتوبوا.
قيس بن أبي حازم عن علي كرم اللّه وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما أرى اللّه تعالى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض أشرف على رجل على معصية من معاصي اللّه فدعا اللّه عليه فهلك، ثم أشرف على آخر فدعا اللّه عليه فهلك، ثم أشرف على آخر فلما أراد أن يدعو عليه أوحى اللّه عز وجل إليه أن يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة فلا تدعونّ على عبادي فإنهم مني على ثلاث خصال: إما أن يتوب إليّ فأتوب عليه، وإما أن أُخرج منه نسمة تسبّح، وإما أن يعود إلي فإن شئت عفوت عنه وإن شئت عاقبته».
وقال الضحاك: ملكوت السماوات والأرض الشمس والقمر والنجوم. وقال قتادة: خبيء إبراهيم عليه السلام من جبار من الجبابرة فحول له رزق في أصابعه فإذا مص إصبعاً من أصابعه وجد فيها رزقاً فلما خرج أراه اللّه ملكوت السماوات والأرض وكان ملكوت السماوات الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض الجبال والشجر والبحار.
{وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل رَأَى كَوْكَباً} إلى آخر الآية.
قال المفسرون: إن إبراهيم عليه السلام ولد في زمن نمرود بن كيفان وكان نمرود أول من وضع التاج على رأسه وقلد التاج عليه ودعاء الناس [....] وكان له كهان ومنجمون. وقالوا: إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه. ويقال إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء عليهم السلام.
وقال السدي: رأى نمرود في منامه كأن كوكباً اطلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ففزع من ذلك فزعاً شديداً ودعا السحرة والكهنة والجازة والقافة فسألهم عن ذلك فقالوا: مولود يولد في ناحيتك في هذه السنة يكون هلاك ملكك وأهل بيتك على يديه. قالوا: فأمر بذبح كل غلام يولد في ناحيته تلك السنة وأمر بعزل الرجال عن النساء وجعل على كل عشر رجلاً، فإذا حاضت إمرأة خليت بينها وبينه، فإذا طهرت عزل بينها، فرجع آزر أبو إبراهيم فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فوقع عليها في طهرها فلقفت فحملت إبراهيم عليه السلام.
قال محمد بن إسحاق: بعث النمرود إلى كل إمرأة حبلى بقريته فحبسها عنده، إلاّ ما كان من أم إبراهيم فإنه لم يعلم بحبلها وذلك إنها كانت جارية حديثة السن لم تعرف الحمل في بطنها.
قال السدي: خرج نمرود بالرجال إلى المعسكر ونحاهم عن النساء خوفاً من ذلك المولود أن يكون فمكث بذلك ما شاء اللّه ثم بدت له حاجة إلى المدينة فلم يأمن عليها أحداً من قومه إلاّ أزر فبعث إليه ودعاه. فقال: إن لي إليك حاجة أحبّ أن أوصيك بها ولا أبعثك إلاّ لثقتي بك بما أقسمت عليك أن لا تدنو من أهلك ولا تواقعها، فقال آزر: أنا أشحّ على ديني من ذلك، فأوصاه بحاجته ثم بعثه فدخل المدينة وقضى حاجته، ثم قال: قد دخلت على أهلي ونظرت إليه فلما نظر إلى أم إبراهيم لم يتمالك حتى وقع عليها فحملت بإبراهيم.
قال ابن عباس: لما حملت أم إبراهيم، قالت الكهان لنمرود: إن الغلام الذي أخبرناك به قد حملته أمه الليلة، فأمر نمرود بذبح الغلمان فلما دنت ولادت أم إبراهيم وأخذها المخاض خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها فوضعته في نهر يابس، ثم لفته في خرقة فوضعته في حلفاء فرجعت فأخبرت بأنها ولدت وإن الولد في موضع كذا فانطلق أزر يأخذه من ذلك المكان وحفر له سرباً عند نهر فواراه فيه وسدّ عليه بابه بصخرة مخافة السباع، وكانت أمه تختلف إليه فترضعه.
وقال السدي: لما أعظم بطن أم إبراهيم خشي آزر أن يذبح فانطلق بها إلى أرض بين الكوفة والبصرة يقال لها أورمة فأنزلها في سرب من الأرض وجعل عندها ماء يصلهما وجعل يتعمدها ويكتم ذلك من أصحابه فولدت في ذلك السرب وشب وكان وهو ابن سنة كابن ثلاث سنين وصار من الشباب مخافة أن يسقط في طمع الذباحين ثم ذكر آزر لأصحابه أن لي إبناً كبيراً فانطلق به إليهم.
وقال ابن إسحاق: لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلاً إلى مغارة كانت قريباً منها فولدت فيها إبراهيم فأصلحت من شأنه ما يصنع من المولود ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها ثم كانت تطالعه في المغارة لتنظر ما فعل فتجده حيّاً يمص إبهامه.
وقال أبو روق: كانت أم إبراهيم كلما دخلت على إبراهيم وجدته يمص أصابعه، فقالت ذات يوم: لأنظرن إلى أصابعه فوجدته يمص من إصبع ماء ومن إصبع عسلاً ومن إصبع لبناً ومن إصبع تمراً ومن إصبع سمناً.
قال محمد بن إسحاق: وكان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل. فقالت: ولدت غلاماً فمات، فصدقها فسكت عنها وكان اليوم على إبراهيم في الشباب كالشهر، والشهر كالسنة فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلاّ خمسة عشر شهراً ثم رجع إلى أبيه آزر فأخبره إنه إبنه. وخبرته أم إبراهيم إنه إبنه وأخبرته بما كانت صنعت في غيابه فسر بذلك آزر وفرح فرحاً شديداً، قالوا: فإنما شب إبراهيم وهو في السرب بعد ما قال لأمه: من ربي؟
قالت: أنا، قال: فمن ربك؟ قالت: أبوك، قال: فمن ربّ أبي؟ قالت له: أسكت، فسكت، فلما رجعت إلى زوجها قالت: أرأيت الغلام الذي كنّا نتحدّث إنه بغير دين أهل الأرض فإنه إبنك ثم أخبرته بما قال لها، فأتاه أبوه آزر فقال له إبراهيم: يا أبتاه من ربي؟ قال: أمك، قال: فمن رب أمي؟ قال: أنا، قال: من ربك أنت؟ قال نمرود، قال: فمن رب نمرود؟ فلطمه لطمة وقال: أسكت وقم، قال لأبويه: أخرجاني، فأخرجاه من السرب وانطلقا به حين غابت الشمس فنظر إبراهيم إلى الإبل، والخيل، والغنم، فقال: أباه ما هذه؟ قال: إبل وخيل وغنم، فقال: ما لهذه بدّ من أن يكون لها رب وخالق ثم نظر وتفكر في خلق السماوات والأرض. فقال: إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني ربي مالي إله غيره. ثم نظر فإذا المشتري قد طلع ويقال الزهرة وكانت تلك الليلة في آخر الشهر فرأى الكوكب قبل القمر. فقال: هذا ربي فذلك قوله عز وجل: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل} أي دخل يقال: جن الليل وأجن وجنه الليل وأجنه وجن عليه الليل يجن جنوناً وجناناً إذا أظلم ومضى كلّ شيء، وإنما سميت الجن لاجتنانها فلا ترى.
قال أبو عبيدة: جنون الليل سواده، وأنشد:
فلولا جنان الليل أدرك ركضنا *** بذي الرمث والأرطي عياض بن ناشب
ورأى كوكباً ف {قَالَ هذا رَبِّي} إختلفا فيه فأجراه بعضهم على الظاهر. وقالوا: ما كان إبراهيم عليه السلام مسترشداً متحيراً طالباً من التوفيق حتى وفقه اللّه تعالى، وآتاه رشده، فإنما كان هذا منه في حال طفولته، وقبل قيام الحجّة عليه وفي تلك يقول: لا يكون كفر ولا إيمان.
يدل عليه ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فعبده حتى غاب فلما غاب {قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين * فَلَمَّآ رَأَى القمر بَازِغاً قَالَ هذا رَبِّي} فعبده حتى غاب فلما غاب {فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين * فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي هاذآ أَكْبَرُ} فعبدها حتى غابت الشمس فلما غابت {قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ}.
وأنكر الآخرون هذا القول، وقالوا: غير جائز أن يكون للّه عز وجل رسول يأتي عليه وقت من الأوقات وهو غير موحد وعارف ومن كلّ معبود سواه بريء.
قالوا: وكيف قومهم هذا على عصمة اللّه وطهره في مستقره ومستودعه وآتاه رشده من قبل، وأراه ملكوته فقال: {إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 84] وقال: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} [الأنعام: 75] رأى كوكباً فقال: {هذا رَبِّي} على الاعتقاد والحقيقة هذا ما لا يكون أبداً.
ثم قيل فيه أربعة أوجه من التأويل: الوجه الأول: أن إبراهيم عليه السلام أراد أن يستدرجهم بهذا القول ويعرفهم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عظموا ويقيم عليهم الحجة ويريهم أنه معظم ما يعظموه ويلتمس الهدى من حيث التمسوا فلما أفل رأيهم النقص الداخل في النجوم ليتبينوا خطأ ما يدعون وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها ويحكمونها.
قالوا: ومثل هذا مثل الحواري الذي ورد على قوم يعبدون بدّاً لهم وهو الصنم وأظهر فعظمه فأراهم الإجتهاد [...] كرموا وصدوا في كثير من الأمور عن رأيه إلى أن ذمهم عدو لهم خافه الملك على ملكه فشاور الحواري في أمره.
فقالوا الرأي: أن تدعوا إلهنا حتى يكشف ما قد أضلنا فإنا لمثل هذا اليوم مجتمعون فاجتمعوا حوله يجأرون ويتضرعون وأمر عدوهم يستعجل ويتوكل فلما تبين لهم أن ربّهم لا ينفع ولا يرفع فقال لهم على جهة الإستفهام والتوبيخ لفعلهم {هذا رَبِّي} ومثل هذا يكون ربّاً؟ أي ليس هذا ربي كقول اللّه تعالى {تَكُونَا مِنَ الخالدين} [الأعراف: 20] يعني أنهم الخالدون.
وكقول موسى عليه السلام لفرعون: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} [الشعراء: 22] يعني أو تلك نعمة نعمتها.
قال الهذلي:
رفعوني وقالوا يا خويلد لا ترع *** فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
وقال آخر:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا *** شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
والوجه الثالث: أن إبراهيم عليه السلام قال هذا على وجه الاحتجاج على قومه لا على معنى الشك في ربه كأنه قال: هذا ربي عندكم فلمّا أفل قال: وكان الهلال قال: هذا أكبر منه فنظر إلى الذي عكفت عليه ها هنا يعني عندك وقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] بقوله حزنه في النار لأبي جهل يعني إنك كذا عند نفسك وأما عندنا فلا عزيزاً ولا كريماً، في الآية إختصار وإضمار ومعناها قال: يقولون هذا ربي كقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا} [البقرة: 127] أي يقولون ربنا تقبل منا. فلما أفل غاب وزال قال: لا أحب الآفلين رباً، لا يدوم، فلما رأى القمر بازغاً طالعاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين عن الهدى فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي.
قال محمد بن مقاتل الرازي: إنما قال هذا ولم يقل هذه لأنه رأى ضوء الشمس ولم ير عين الشمس. فرده إلى الشعاع.
وقال الأخفش: أراد هذا الطالع ربي أو هذا الآتي أراه ربي هذا أكبر لأنه رآه أضوأ وأعظم فلما غربت قال: يا قوم إني بريء مما تشركون {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} الآية. وكان آزر يصنع الأصنام فلما ضم إبراهيم إلى نفسه جعل يصنع الأصنام ويعطيها إبراهيم ليصرفها فيذهب بها إبراهيم فينادي: من يشتري ما يضره ولا ينفعه فلا يشتريها أحد، فإذا زادت عليه ذهب بها إلى نهر فصوّب فيها رؤسها وقال: إشربي إستهزاءً بقومه وبما هم عليه من الضلالة حتى فشى عيبه إياها واستهزاؤه بها في قومه وأهل قريته {وَحَآجَّهُ} أي خاصمه {قَوْمُهُ} في دينه {قَالَ} لهم {أتحاجواني فِي الله وَقَدْ هَدَانِ} عرّفني التوحيد والحق {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} وذلك إنهم قالوا له: أما تخاف أن تمسك آلهتنا بسوء من برص أو خبل لعيبك إيّاها؟ فقال لهم: ولا أخاف ما تشركون به من الأصنام {إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي} سواء فيكون بما شاء {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} يعني أحاط علمه بكل شيء {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ} يعني الأصنام وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع {وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} حجة وبرهاناً وهو القاهر القادر على كل شيء ثم قال: {فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن} أولى بالأمن أنحن ومن اتّبع ديني {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} فقال اللّه عز وجل قاضياً وحاكماً بينهما {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ} ولم يخلطوا إيمانهم بشرك {أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ}.
قال عبد اللّه بن مسعود: لما نزلت هذه الآية طبق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إننا لم نظلم نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه {يابني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]» إنما هو الشرك.
{وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ} يعني خصمهم وغلبهم بالحجة قال هي قوله الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم. قال بعبادة الأوثان {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} بالعلم.
وقرأ أهل الكوفة ويحيى بن يعمر وإبن محيصن: درجات بالتنوين يعني نرفع من نشاء درجات، مثله سورة يوسف {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8